سورة الحجرات - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ} قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو، والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود: 98] وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل، وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله {هُوَ الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ} [غافر: 68] أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة يعقوب {لاَ تُقَدّمُواْ} بحذف إحدى تاءي تتقدموا {بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره. وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجري مجرى قولك (سرني زيد وحسن حاله) أي سرني حسن حال زيد. فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت. وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر. وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك. {واتقوا الله} فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لما تقولون {عَلِيمٌ} بما تعملون وحق مثله أن يتقي.
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ} إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم {لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى} أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر، أو لا تقولوا: له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها. {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}. {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} تم اسم {إن} عند قوله {رَسُولِ الله} والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له {أولئك} مبتدأ خبره {الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} وتم صلة {الذين} عند قوله {للتقوى} و{أولئك} مع خبره خبر {إن}. والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم (امتحن الذهب وفتنة) إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه: أذهب الشهوات عنها. والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} جملة أخرى قيل: نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت، وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل (إن) المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم.
{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته وقالوا: اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين، فاستيقظ وخرج. والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام، و(من) لابتداء الغاية، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل منهن حجرة.
ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي.
وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها التعريف باللام دون الإضافة، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك. فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} أي ولو ثبت صبرهم، ومحل {أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} الرفع على الفاعلية. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الكهف: 28]. وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس. وقيل: الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ. وقوله {حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم {لَكَانَ} الصبر {خَيْراً لَّهُمْ} في دينهم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ارتدوا ومنعوا الزكاة.
فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع. وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ {فَتَبَيَّنُوآ} فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة، والفسوق الخروج من الشيء. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه: فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضاً: قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر. حمزة وعلي {فتثبتوا} والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف {أَن تصيبوا قَوْماً} لئلا تصيبوا {بِجَهَالَةٍ} حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة {فَتُصْبِحُواْ} فتصيروا {على مَا فَعَلْتُمْ نادمين} الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام.
{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه. ثم قال مستأنفاً {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} لوقعتم في الجهد والهلاك، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} وقيل: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت (لكن) في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً {وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود {والفسوق} وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر {والعصيان} وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع {أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون} أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة {والله عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل {حَكِيمٌ} حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل.


{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيب من مسكك. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي. وقيل: بالأيدي والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم ونزلت. وجمع {اقتتلوا} حملاً على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، وثنى في {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} نظراً إلى اللفظ {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح {فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِئ} أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت {إلى أَمْرِ الله} المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء {فَإِن فَآءَتْ} عن البغي إلى أمر الله {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بالإنصاف {وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين والقسط: الجور، والقسط: العدل، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور.
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها. ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك، {أخوتكم} يعقوب {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي واتقوا الله، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} القوم: الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر. واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله:
وما أدري ولست إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن. وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين: أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية. وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه، وقوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ}. كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً.
{وَلاَ تَلْمِزُوآ أَنفُسَكُمْ} ولا تطعنوا أهل دينكم. واللمز: الطعن والضرب باللسان {وَلاَ تَلْمُزُواْ} يعقوب وسهل. والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} التنابز بالألقاب التداعي بها، والنبز لقب السوء والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له، فأما ما يحبه فلا بأس به. ورُوي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت. وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة، وعن أنس رضي الله عنه: عيرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر. ورُوي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع، فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: تنح فلم يفعل. فقال: من هذا؟ فقال الرجل: أنا فلان. فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً.
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم (طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم) وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق. وقوله {بَعْدَ الإيمان} استقباح للجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يحظره الإيمان كما تقول (بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة). وقيل: كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهي عنه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} وحد وجمع للفظ من ومعناه.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه. وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} قال الزجاج: هو ظنك بأهل الخير سوأ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم. أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض، والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم. يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس. وعن مجاهد: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله. وقال سهل: لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وفي الحديث: «هو أن تذكر أخاك بما يكره» فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان. وعن ابن عباس: الغيبة إدام كلاب الناس.
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} {مَيِّتًا} مدني. وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، وفي مبالغات منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي، وانتصب {مَيْتًا} على الحال من اللحم أو من أخيه، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} التواب: البليغ في قبول التوبة، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين.
ورُوي «أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا: ما تناولنا لحماً، قال: إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه. ثم قرأ الآية»، وقيل: غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق.


{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها {لتعارفوا} أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} في الحديث: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عِبُية الجاهلية وتكبرها. يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله» ثم قرأ الآية. وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول: «من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت» {إِنَّ الله عَلِيمٌ} كرم القلوب وتقواها {خَبِيرٌ} بهمّ النفوس في هواها.
{قَالَتِ الأعراب} أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه {ءَامَنَّا} أي ظاهراً وباطناً {قُلْ} لهم يا محمد {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} لم تصدقوا بقلوبكم {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} فالإيمان هو التصديق، والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة. وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف، وفي {لَّمّاً} معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان، فإن قلت: مقتضى نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك. ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به. وليس قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} تكريراً لمعنى قوله {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} فإن فائدة قوله {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} تكذيب لدعواهم وقوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في {قُولُواْ}.
{وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في السر بترك النفاق {لاَ يَلِتْكُمْ} {لا يألتكم}: بصري {مِّنْ أعمالكم شَيْئاً} أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً. ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص {أَنَّ الله غَفُورٌ} بستر الذنوب {رَّحِيمٌ} بهدايتهم للتوبة عن العيوب. ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه. ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر. وخبر المبتدأ الذي هو {المؤمنون} {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق. وقوله {الذين آمَنُواْ} صفة لهم.
ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم {والله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض والله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ} من النفاق والإخلاص وغير ذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ} أي بأن {أَسْلَمُواْ} يعني بإسلامهم.
والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} أي المنة لله عليكم {أَنْ هَداكُمْ} بأن هداكم أو لأن {للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين} إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرئ {إِنْ هَداكُمْ} {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وبالياء: مكي. وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب؟